أخذت كل حياة وعمر اليمني.بصوره وانشغالاته المختلفة.كأنما لم يتبق له هناك من مساحة لتفكير أو حتى وقت للوقت – رغم قيمة الهدر- التي تتم لكل شيء.على حساب مفردة المستقبل. وضياعه.في اللحظة المسفوحة دونما تأمل تفاصيل زمن آخر.يمر دون حساب.سوى في شكل تلمس أولويات العيش الأخرى.والتي باتت تمثل كابوسا لدى كثير من اليمنيين.

السياسة بدرجة أولى.تكاد تأخذ الجزء الأكبر من اهتمام قطاع واسع في المجتمع.لكن بمستوى تعاطٍ سطحي.وضيق.في زاوية النظر إليه.أو شكل التعاطي.الذي يتم من خلاله.بعيدا عن كل جدية.

و في حال النظر إلى قضايا و مشكلات بعينها.تفرض نفسها بإلحاح الحاجة في ظل تزاحم طرحها.وبمايستدعي الجدية.فإنك لا تلمس الجدية لدى اليمني غالبا - حتى في الجدية نفسها.

وعلى الصعيد العام.يبدو المزاج في شق كبير منه غير منشغل بأي شيء.من قبيل السياسة مثلا ً.قدر انشغاله بخبز يومه.إن لم يكن بـ"قاته" قبل قوته.ليغدو الاهتمام بالأخير.ثانويا رغم ما يبذله اليمني من جهد عضلي في سبيل الإطعام.

بيد أن كثيرا من الناس ونتيجة لحال اللامبالاة في نظرتهم لأولويات بعينها.فإن القات يمثل هاجسا وهماً أساسيا يتصدر مطلبية المجتمع.ودونما حاجة إلى مفاهيم مدنية بالضرورة لإنجازه كفعل تحول.باعتبار كونه على العكس من ذلك.

هناك عديد من الناس.تتعرض أسرهم غالبا و– بسبب من لامبالاتهم- تحت طائل حرمانا ت كثيرة-.قد لا توفر لهم ولأطفالهم الحد الأدنى من أساسيات ضرورية للجسم وإطعام الفم.غير"عشبة أنكيد و اليمنية"أو بمعنى آخر- عشبة النكد- التي يتصدر الاهتمام المهجو س بها لدى نسبة كبيرة في المجتمع.وكمصدر أساسي لدخل كثيرين حيث ينظر للقات سياسيا كقيمة تدعم الاقتصاد المحلي في الضريبة.

وبقدر ما يتم النظر إليه.كمبرر لسد فجوات كثيرة. يصرف النظر إلى أضراره .ومدى انعكاساتها في معيشة الناس وصحتهم.بينما تبرر الحكومة استيعاب القات لفرص عمل واستفادة كثير من الناس.ممن يعتاشون على ريعه.وغير ذلك من أسباب أخرى يستحيل تجاوزها أو مجرد طرحها كخطة اجتثاث.إذ من شأن طرح اجتثاث القات في اليمن التسبب في حروب أهلية لا حرب واحدة.وذلك أخطر بكثير من حرب الحوثيين على الحكومة.كما يرى البعض.

ومن المعلوم أن القات يتموضع كأول أولوية لملايين من الناس في أجندة يومهم فيغدو هما منذ الصباح الباكر وحتى وقت متأخر من الليل.وبما يشي بتأثير سلبي متراكم جر بسببه ويلات كثيرة على الشعب.من أبرزها.تثبيت وشرعنة الفساد.والرشوة.في الوظيفة العامة.وتنمية اللامبالاة في نزوع الموظف في الأغلب إلى البيروقراطية في التعاملات الإدارية.وكخيار للابتزاز أحيانا يلجأ له بعض صغار الموظفين في الحكومة غالبا لإنجاز المعاملات.ما جعل ويجعل من القات أحد الأسباب الرئيسية في شرعنة الفساد وتنميته بأشكال وصور شتى.



وعلاوة على تأثيراته الصحية الأخرى وما ينتج عنها من تسميم متعاطيها غالبا.نتيجة مبيد متنوع.بعضه فتاك ويتم استخدامه عادة بعشوائية لإنضاجه.ودونما رقابة.أو إرشادات.ولعل أخطر المبيدات المستخدمة بإفراط في القات تأتي في شكل تهريب كما يقال من "إسرائيل"وبلدان عربية.ويبرز القات كهوية ماسخة ومعطلة لوعي ولمستقبل وتحولات بنيوية ماسة وخطيرة تحتاجها اليمن.

وفي حين يمثل القات في المزاج اليمني هيئة شخصية مؤثرة وكاريزمية.تفوق في تأثيراتها كل سلطة قامعة.فإن القات رغم ذلك يحظى بما يشبه إجماع وطني كشخصية اعتبارية.لا يدانيه في المكانة والرهبوت اعتى"شيخ" حليف للنظام.

وقد لا يحظى على امتياز شخصية "القات"وحضوره ما لا يحوزه"دستور بلد مرقع"من إجماع.وبصورة لا يماثلها في سلطة السحر والعرف حتى" شيخ الجن" أو الجعاشن.أو أي جهوية قبلية أخرى قامعة.وبقدر ما أن القات سلطة سلمية.كفكرة بلا أجهزة.أي فكرة لا تقمع ولا تختطف أو تخفي ضحاياها قسر ا.بعد إرتها نا ت نفسية وتعذيب.ومهانة ولا إنسانية.بقدر ما أن شخصية القات يتحرك فعلها النفسي بوعي متعاطيها القلق.وكطقس ثابت من الغياب والشرود والــ"الكيف".بخيارات ورغبة تمثلا ته.

ولا يكاد ينافس القات في التأثير على المجتمع أي فعل سياسي أو أيدلوجي.بما في ذلك صاحب القرار.ولو افترضنا أن القات بهيلمان ما يحوزه من طاعة.وبحكم ما يكونه من أيدلوجيا.إن جاز التعبير.ولو في شكل استعصائه على الفهم.كطقس ملتبس على وعي العالم.ونتيجة لاستئثاره بحياة الناس في اليمن.ومسوغات وعيهم في بقائه.فلو قيظ للقات بضوء ذلك مثلا :أن يرشح نفسه للانتخابات الرئاسية القادمة..لأمكن ترجيح فوزه على رئيس الجمهورية بالأغلبية"الساحقة"؟! ودونما الحاجة بالطبع إلى فائض من الصناديق.تستدعيها كالعادة وفي مثل تلك اللحظات الحرجة.مصفحات الحرس.؟

وهكذا آمل أن أكون قد اقتربت من استجلاء فكرة القات.في خصوصية مجتمعنا.ولو بشكل مقتضب.فيما يبقى تأثيره النفسي والسحري في بيولوجيا الأفراد - من متعاطيه-وأنا واحدا منهم بالطبع وإن بخفة! لا يقل تأثيرا عن اعتقاد البعض بـ"الدين "كعقيدة.إن لم يمثل القات في فكرته ما يمكن أن أسميه :الديانة الثانية في اليمن.ولو بالمعنى المجازي للمشابهة.

غير أن أدق وأبلغ وصف استهدف القات بوصفه " الحاكم الكبير" في اليمن. نعت كان أطلقه الشاعر اليمني والمناضل الراحل"محمد محمود الزبيري" أحد أبرز المثقفين التنويريين من الطليعة في اليمن والشهير بـ"أبي الأحرار"وهاهو القات ما يزال حتى اللحظة بمثابة: مصير يومي بالنسبة لليمني في تمثيل نسبة متعاطيه.وحيث يلتقي الناس في تناول القات.في مواطنة واحدة دون تمييز.بصرف النظر عن تفاوت الثمن الذي يدفعه المشتري لقائه.أو ما يدفعه من ثمن قد يكون حياته في بعض الأحيان .نتيجة ثارات.وقضايا كثيرا ما يكون القات أحد أسبابها الجنائية.مثلما تتبدى ملامح كثيرة في لامبالاة بحياتنا.بفعل القات : كهوية شائهة تسقط يوما فيوما ظلالها على الأشياء.في مساء ضجر ٍ وواقع لا يتغير.نفسخه بوهم الشاي الحليب.

آخرا لا أخيرا.لا أجد ما أختم به عجالة كهذه سوى تأكيد: أن ضرورة الحد من التبول في الشارع اليمني.أهم بكثير من "تشكيل حكومة جديدة" أو المطالبة بالإصلاحات السياسية؟

*شاعر وكاتب من اليمن

- المادة نقلا عن (القدس العربي)